مصدر الإدمان في داخلنا
نحن نعلم أن كثيرا من البشر لا يدمنون شيئا أو نشاطا واحدا ، وإنما قد يكون لدى كل واحد منهم مجموعة من الإدمانات ، وواقع الأمر ، أن بعض أنواع الإدمان تناسب بعضها بعضا وتسير ما جنبا إلى جنب ، ومن المعروف مثلا، أن إدمان الجنس يرتبط في أغلب الأحيان بتعاطي الكحول أو المخدرات . وبالمثل أيضا ، نجد أن وفي ضوء ما يكتشفه كثير من الناس نجد أن وقف شكل من أشكال الإدمان لا يؤدی تلقائيا إلى شفاء أنواع الإدمان الأخرى.
يضاف إلى ذلك ، أننا لا يمكن أن نسلم ، بعد اليوم أن الإدمان ينتج عن مجرد الرغبة في تجنب الانسحاب ، مثلما كان يظن الخبراء في يوم من الأيام . وهذا هو المصدر الذي انبثقت منه برامج تخليص المدمن من سموم المادة التي يتعاطاها ، والتي يجری بمقتضاها منع المريض عن المخدرات ثم إعادته “معافی” إلى منزله خلال أيام قلائل . كان هناك اعتقاد مفاده أن كل ما يتعين على المدمن عمله ، هو أن يتوقف عن تعاطي المخدر ، وأن يكمل عملية الانسحاب البدني لیري بعد ذلك أنه خرج من الإدمان وخلفه وراءه .
ويتوفر لدينا حاليا المزيد من المعلومات الخاصة بالشفاء من الإدمان أكثر من مجرد علمنا بالتوقف عن ذلك السلوك القهري ليس إلا . وهذه المعلومات تتصل بتغيير أسلوب الحياة وتغيير المواقف أكثر من أي شيء آخر . ونحن لا نعني بأسلوب الحياة مسألة إن كان المدمن يقضي عطلته على الشاطئ أو في الجبال ، أو أنه يأكل اعتمادا على طعام الخارج أكثر من اعتماده على الطبخ في منزله . إن ما نعنيه بتغيير أسلوب الحياة هو تغيير رؤية ذلك المدمن للعالم ( منظومة معتقداته ) ، كما نعني بذلك أيضا طريقة معالجة ذلك المدمن للمشكلات ، كما نعني بذلك أيضا طريقة إشباع ذلك المدمن الاحتياجاته البدنية ، والعاطفية ، والاجتماعية وكذلك احتياجاته الروحية .
ما القاسم المشترك بين كل صور الإدمان ؟
من المؤكد أن ذلك القاسم لا يتجلى في مادة كيماوية بعينها ، أو في أية مادة من المواد التي تسبب الانسحاب أو حتى في الطريقة التي تؤثر بها مثل هذه المادة على المخ البشري ولكن الذي يوجد في كل صورة من صور الإدمان هو المدمن ذاته “المرض الذي يكمن داخلنا – افتقارنا إلى الارتياح والسلاسة – هو الذي يعرضنا للإدمان ، وليست الأنشطة أو المواد التي تعرضنا للادمان . هذا يعني أن مصدر الإدمان الفعلي يكمن داخلنا ولعل هذا هو السبب في أن المدمنين يمتنعون عن إتيان ذلك السلوك القهري عندما يتحولون إلى ممارسة الأنشطة الإيجابية التي من قبيل التأمل والتبصر وممارسة التمرينات البدنية أو تناول الأطعمة الصحية ، والناس الذين لديهم الاستعداد للإدمان يمكن أن يدمنوا أي شيء .
ما هو مرض الإدمان ؟
مرض الإدمان يعني ، في بعض أجزائه ، أن البشر لديهم بعض المعتقدات المتضارية التي تمهد الطريق للصراع والنضال الداخليين – ومن بين هذه المعتقدات ، على سبيل المثال ، أن نظن في آن واحد أننا لسنا أكفاء وأننا ينبغي أن نكون كاملين .
ومن هذه المعتقدات المتضاربة أيضا إحساسنا بأننا ينبغي أن نكون قادرين على شيء ومتحكمين فيه ، وإحساسنا ، في الوقت ذاته ، بأننا عاجزين تماما عن التأثير في حيواتنا .
الإصابة بمرض الإدمان تعني أيضا عدم القدرة على تحمل الإحباط والمسارعة إلى الإشباع الفوري والمباشر؛ الإصابة بالإدمان تعني أيضا الافتقار إلى المهارات اللازمة للتعامل مع المشكلات المعتادة في حياتنا والعمليات المعتادة في هذه الحياة أيضا .
ونجد ( في الاستعداد الوراثي لدى بعض المدمنين الكيماويين ) خمسة عوامل رئيسية تجعل أولئك الناس عرضة للتحول إلى تعاطي المخدرات أو النشاط الذي يؤدی إلى تغيير الحالة النفسية ، إذ يجدون فيها تأثيرا محببا (مرحلة الصبابة والهيام ) ، ويضطرون إلى تكرار ذلك التعاطي مرات ومرات . وتتمثل تلك العوامل الخمسة الرئيسة لمرض الإدمان
1- منظومة معتقدات إدمانية .
2- شخصية مدمنة .
3-عدم كفاية مهارات التعامل مع المشكلات المعتادة .
4- احتياجات عاطفية واجتماعية وروحية غير مشبعة .
5- الافتقار إلى المساندات الاجتماعية .
أولا : منظومة المعتقدات الإدمانية
الإدمان يرتكز على منظومة من المعتقدات الخاطئة . وهذه المنظومة الخاطئة ، تتضمن فكرة أن الكمال أمر ممكن، وأن الدنيا يجب أن تكون بلا حدود ، وأن صورتنا أهم من واقعنا ، كما تتضمن تلك المنظومة أيضا اعتقادا مفاده أننا لسنا أكفاء وأن الخارجيات ( الناس ، المخدرات ، وأشياء أخرى خارج أنفسنا ) لديها الحلول “السحرية” لمشكلات الحياة .
وهذه المعتقدات هي التي تجعل وعود الإشباع السريع ( الحل السريع ) تغرينا وتغوينا ، حتى عندما تحرمنا تلك المعتقدات من الإشباع الدائم الكبير على المدى الطويل .
ثانيا : الشخصية المدمنة
بعض السمات الشخصية المحددة تنبثق من المعتقدات الإدمانية وتجعل الإدمان يزداد سوءا على سوء . وهذه السمات تتضمن الكمال ، الخدر العاطفي ، السعي إلى الاستحسان والقبول ، والحساسية المفرطة للنقد والرفض ، سهولة استشعار العيب والعار ، عدم السيطرة على الغضب ، العجز عن تحمل الإحباط وخيبة الأمل ، ومشاعر قلة الحيلة ، والحاجة المفرطة إلى التحكم والسيطرة ، والموقف السلبي من المشكلات ، وإهمال الذات ، العزلة ، والميل إلى العيش في الخداع الذاتي .
ثالثا : عدم كفاية مهارات التعامل مع المشكلات
نظرا لأننا نعيش في مجتمع يتزايد فيه الإدمان ، ونظرا لأننا نعيش أيضا في أسر وعائلات يتزايد فيها الإدمان وتتناقل المعتقدات الخاطئة ، فنحن لا نتعلم من مهارات حل المشكلات ومواجهتها سوی شیء قليل . إذ ليس لدينا ، على سبيل المثال ، سوى القليل جدا من الأدوار النموذج ، کی نتعلم منها تحمل الغموض والإحباط ، وتقييم الخيارات والتواصل المباشر الأمين الصادق ، ونتعلم منها التعاون واتخاذ الإجراءات البناءة .
ونحن بدلا من أن نتعلم هذه الأشياء ، رحنا نتعلم من المجتمع الذي نعيش فيه والأسر التي تضمنا ، اللجوء إلى الحلول السريعة ، أو إن شئت فقل : رحنا نتعلم الحلول قصيرة الأمد .
رابعا : الاحتياجات العاطفية والاجتماعية والروحية الغير المشبعة
من المعروف أن الاحتياجات غير المشبعة المزمنة في مسألة القبول غير المشروط لما نحن عليه ، وليس للصورة التي نتمناها ) ، وكذلك الحميمية ، والمجتمع ، والأمن ، وكذلك المعنى والهدف ، والاستغلال الذاتي ، وكذلك اللعب ، كل هذه الأمور تترك لدينا مشاعر سلبية مزمنة وحالات نفسية سلبية مزمنة أيضا . وتزداد تلك المشاعر ، وهذه الحالات النفسية السلبية التي من قبيل القلق ( الحصر) والغضب والوحدة والاكتئاب تزداد تفاقما نظرا لافتقارنا إلى مهارات مواجهة المشكلات من ناحية ، ويفعل عجزنا عن تحمل الفشل والإحباط من ناحية ثانية ، والأدهى من ذلك أن هذه المشاعر تتحول إلى ما يشبه الثد التي تستطلق فينا البحث عن الغوث والراحة والانصراف إلى الإدمان .
خامسا :الافتقار إلى المساندات الاجتماعية
عدم الإحساس بالانتماء إلى شبكة من شبكات الإسناد – سواء أكان الإسناد من الأسرة الصغيرة ، أم الأسرة الكبيرة ، أم من المجتمع أم من أية جماعة أخرى – يحول مواجهة المشكلات وحلها إلى قوة قاهرة ( وبخاصة عندما تكون مهارات الإنسان وقدراته من النوع الضعيف الذي لا يمكن الاعتماد عليه ) ، وهنا تزداد جاذبية ذلك وقدراته من النوع الضعيف الذي لا يمكن الاعتماد عليه ) ، وهنا تزداد جاذبية ذلك الغوث وتلك الراحة اللذين يحققهما الإدمان .
أن الافتقار إلى الإحساس بالمجتمع والمساندة غير المشروطة يسهم أيضا في تعرضنا للادمان بكل صوره ، ذلك الوباء الذي ينتشر بيننا . الوحدة أيضا من الأمور التي تغذي الإدمان .
ما الذي تعطينا إياه مغيرات الحالة النفسية؟
إذا أردنا أن نفهم الأسباب التي تجعل الإدمان بصوره المختلفة يشبه الوباء، فلابد لنا أن نفهم ذلك الذي يعود علينا من تعاطی مغيرات الحالة النفسية ، أو إن شئت فقل لابد أن نعرف ذلك المردود الذي يعود علينا منها .
1- الخلاص من العزلة
توفر المخدرات ومغيرات الحالة النفسية الأخرى في المجتمع الذي يلاقي الناس فيه كثيرا من المتاعب في العلاقات الحميمية ويفتقر أيضا إلى الإحساس بمساندة المجتمع ، توفر ملاذا محببا للناس ، وبرغم أن الإدمان يسبب المزيد من العزلة على المدى الطويل ، إلا أنه يوفر ، على المدى القصير ، الاتصالات ، بل والألفة والمودة ، في معظم الأحيان ، مع المدمنين الآخرين – أو قد يساعد على تخدير وتغييب الشعور بالوحدة . من هنا يمكن القول ، إن التورط الإدمانی يخلق لنفسه إحساسا بالانتماء والمشاركة الجماعية ، بالرغم من أنه يعد شكلا من أشكال التورط المدمرة للذات .
2- الابتعاد عن المشاعر والانصراف عنها
توفر أشكال الإدمان لنا نشاطا وطقوسا تشغلنا طول الوقت ويذلك تبعدنا عن الإحساس بالمشاعر التي تدور داخلنا والخواء الموجود في داخلنا أيضا. وأشكال الإحساس بالمشاعر التي تدور داخلنا والخواء الموجود في داخلنا أيضا. وأشكال الإدمان تعزلنا عن اليأس وتبعدنا عنه ، كما تعزلنا أيضا عن المعنى العميق لحياتنا والهدف منها ، زد على ذلك ، أن أشكال الإدمان تعزلنا أيضا عن المشاعر والصراعات التي نخشى أن تقهرنا وتغلبنا على أمرنا .
3- اللذة الكاذبة
في المجتمعات التي غزت قيم العمل فيها الترفيه بشكل كبير ( بأن جعلته تابعا للهدف بدلا من أن يكون خلاقا أو مرحا ) نجد أن مغيرات الحالة النفسية تهيئ لأفراد مثل هذه المجتمعات الفرصة كي تينسوا أنفسهم ، أو إن شئت فقل : إنها تهيئ لهم الفرصة كي يتخلصوا بصورة مؤقتة من الوعي الذاتي والإحساس بالزمن . معنى ذلك أن تلك المغيرات تبعد أولئك الناس عن مواجهه ذلك القدر الضئيل من اللذة والفرح الحقيقيين الذي يتمتع به أولئك الناس في حيواتهم الواقعية .
4- وهم التحكم والسيطرة
تولد مغيرات الحالة النفسية لدى أولئك الناس الذين يحيون في المجتمعات التقنية التي يستشعرون فيها تضاؤل سيطرتهم وتحكمهم في ظروف حيواتهم ومع ذلك يوفرون القوة والأداء ويحترمونهما ، تولد فيهم مشاعر السيطرة ، والكفاية ، والقوة – أو إن شئت فقل : تمنع أولئك الناس من استشعار العجز وقلة الحيلة . ومن المعروف أن الإدمان ليس سوى إشارة إلى البحث عن القوة في كل المصادر الخاطئة .
5- الأزمة المستحكمة
البشر الذين لديهم الاستعداد للإصابة بالإدمان لا يميلون إلى الوقوف على مشاعرهم الحقيقية ، غير أنهم في الوقت نفسه لا يريدون المرور بتجربة “الموات الداخلي الذي ينتج عن كبت هذه المشاعر . من هنا فإن صنوف الإدمان المختلفة تخلق المثل هؤلاء البشر إثارة مستمرة وأزمات مستحكمة ومستمرة أيضا ، لتكون لهم عوضا عن الإحساس الحقيقي بقيمة الحياة الفعلية التي يعيشونها .
6- التكهن بالمستقبل
تقضي طقوس تعاطي المخدر هی والنتائج المترتبة على الإدمان ، على حرية الخيار في حياة المدمن ، وتوهمه أن الحياة بسيطة وسهلة ويمكن التكهن بمكنوناتها ؛ وهذا الوهم يعجب أولئك الذين يحسون بأنهم غير قادرين على مواجهة ضغوط الحياة ومسئولياتها . وهنا يتحول أولئك الناس إلى الإدمان بكل صوره ، بدلا من أن يعيشوا حياة بسيطة تتسم بالتعقل والرزانة .
7- تعزيز الصورة
في المجتمعات التي تعتمد بدرجة كبيرة على عرض الصورة المقبولة من الآخر بد من اعتمادها على الأمانة والأصالة ، نجد أن مغيرات الحالة النفسية تساعد أمثال أولئك البشر على استشعار استحسان الآخر له ، يضاف إلى ذلك ، أن هذه المغيرات تستر وتخفي لدي مثل هؤلاء البشر مخاوفهم من أنهم ليسوا أكفاء ، أو قد تبعدهم خدا عن الإحساس بمشاعر الحكم الذاتي ومعاييره المؤلة . هذا يعني أن تلك المغيرات إنما تحل محل قبول الذات والرضا عنها .
8- الحياة المعلقة
يتجمد إحساس المدمن بالزمن طوال نوبة ثموله ؛ إذ لا يحوم حوله الماضي ولا يؤرقه المستقبل ، ولا يدور بخلده طوال تلك النوبة سوى زمانها ومكانها ليس إلا ومغيرات الحالة النفسية تؤجل الحياة لدى كثير من أولئك البشر الذين يفتقرون إلى مهارات مشكلات الحياة المعتادة ، وبذلك تحل هذه المغيرات – عند أولئك البشر – محل مهارات حل المشكلات وتعمل عملها .